نمر في حياتنا وبشكل دائم بمواقف نجد لزاماً علينا أن نتخذ قرارات.. بدءاً من الأمور البسيطة مثل اختيار الوجبات والهدايا والملابس، ومرورا بخيارات أصعب مثل شراء سيارة أو منزل، أو اختيار نوع الدراسة أو العمل، أو اختيار شريك الحياة، أو حتى اتخاذ قرارات بشأن تربية الأطفال.
صعوبة اتخاذ القرار عند المثاليين
نعلم جميعا صعوبة اتخاذ القرارات، وخصوصاً في الأمور المصيرية مثل الزواج والدراسة والعمل، ويزداد الأمر صعوبة عند من يسعون إلى المثالية والكمالية في حياتهم، ونشاهد هذا الأمر كثيراً في العيادات النفسية.. رجل التقى بفتاة جيدة وبينهما تفاهم وقبول.. ولكنه يحجم عن إتمام الارتباط.. لماذا؟ لأنه يتوقع أن يقابل من هي أفضل، ونفس الأمر في العمل أو في مجال الدراسة.. دائما هناك سعي للمثالي والكامل الذي لا يأتي أبداً.. لأنه غير موجود إلا في أحلام الباحثون عن المثالية والكمالية.
والساعون للمثالية والكمال لا يعانون فقط في اتخاذ القرارات في الأمور المصيرية، ولكنها معاناة مستمرة.. معاناة تدوم في كل لحظة من لحظات الحياة.. ففي كل لحظة اختيار.. والباحث عن الكمال يسعى للوصول للكمال غير الموجود في كل أمور حياته.. ومهما كان الأمر أو العمل جيداً فإنهم يركزون فقط على جوانب النقص؛ حتى لو كانت نسبتها لا تذكر في مقابل ايجابيات كثيرة.
* اتخاذ القرارات بين نمط الكمالية ونمط الرضا
إذا كانت هذه طبيعة حياة الكماليين والساعين للمثالية في كل أمور حياتهم، وإذا كان الأمر بالغ الصعوبة عليهم وعلى المحيطين بهم، فهل هناك أنماط أخرى.. الحقيقة أننا في حياتنا إما أن نتبع "نمط الكمالية والمثالية" أو نتبع "نمط الرضا"، وقد يكون من المفيد أن نقارن بين النمطين لنتعرف عليهما عن قرب.
* نمط الكمالية والمثالية تحت المجهر
من يتبعون هذا النمط يسعون إلى تحقيق أعلى معايير الإنجاز واختيار أفضل خيار ممكن، ويعتقد هؤلاء أن القرار الجيد هو ذلك القرار الذي يحصلون من خلاله على أفضل النتائج التي تحقق طموحاتهم، وهؤلاء مقتنعون أن الذين يحصلون على أعظم المكافآت هم أولئك الذين يحصلون عليها نظرا لجهودهم.
يبدو هذا الشكل براقا جداً.. ومن ثم نتوقع أن هؤلاء الكماليين يحصلون على أفضل الخيارات الممكنة، وأنهم بالتالي سعداء ومتحققون في حياتهم.. فهل هذه حقيقي؟
للأسف فإن الأبحاث لا تدعم هذا الاعتقاد، فقد كشفت الدراسات أن "المثاليين" لديهم مستويات أقل من الرضا عن الحياة، ومستويات أقل من السعادة، ومن التفاؤل واحترام الذات، ويرجع ذلك إلى العديد من الأنماط المعرفية التي تميز طريقة تفكيرهم؛ حيث يميل هؤلاء الأشخاص إلى الاعتماد على المقارنات الاجتماعية التي تشعرهم دائما بالندم والقلق لأن ما حدث كان يمكن أن يكون أفضل.
ورغم أن الدراسات قد وجدت أن هؤلاء المثاليين قد يكونون أفضل من غيرهم في اتخاذ القرارات، لكن رضاهم عن نتائج القرارات هو الأسوأ، وفي دراسة أجريت بين خريجي الجامعات الذين عرفوا أنفسهم على أنهم مثاليون، وجد أنه كان من المرجح - بنسبة 20٪ - أن يحصلوا على وظيفة أعلى أجرا من الراضين بسبب جهودهم المفرطة والمنهكة سعيا للحصول على أفضل خيار ممكن؛ ومع ذلك، فقد كانوا أقل رضا بعد حصولهم على تلك الوظائف.
- نمط المثالية والكمالية والوقوع في فخ بالمثالية السلبية
وجدت الدراسات أن المثاليين قد يحققون نتائج أفضل بكثير في حياتهم، ورغم ذلك فإنهم غير سعداء وغير راضين، وترجح الأبحاث أن هذا يرجع لوقوع هؤلاء في فخ المثالية السلبية، حيث "يميل المثاليون السلبيون إلى وضع أهداف غير واقعية وغير قابلة للتحقيق، ولا يشعرون بالتعاطف مع ذواتهم وقبولها عندما لا تتحقق تلك الأهداف".
- تبعات الوقوع في فخ المثالية السلبية
المثاليون أكثر عرضة للوقوع فريسة للقلق والخوف المفرط بسبب عدم تحقيقهم أفضل النتائج، وبالتالي ينخفض لديهم الرضى عن الحياة بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى ما يطمحون إليه بهذه المعايير العالية، ويصاب هؤلاء المثاليون السلبيون بالإرهاق والإنهاك العاطفي بسبب العبء الذهني المستمر الناتج عن جلدهم لذواتهم وممارستهم المقارنة الاجتماعية بشكل دائم.
* نمط الرضا
هؤلاء الناس يختارون الخيارات "الجيدة بما فيه الكفاية أو Good enough"، وقد يتصور البعض أن الأشخاص الذين يتعاملون مع الحياة من هذا المنطلق خانعون أو قابلون بأقل الأقل، وهؤلاء بمثالية ولكنهت مثالية إيجابية.. فهؤلاء يضعون مقياسا لاختياراتهم، ويضعون حداً أدنى لما يمكن القبول به، ولكنه حد أدنى واقعي ومنطقي وقابل للتحقق، وهم في سعيهم يحاولون الوصول لمستويات أعلى من هذا الحد الأدنى المقبول، ولكن بقدر طفيف وما زال قابلا للتحقق، وسعيهم هذا وبذلهم يؤدي في الغالب للوصول إلى نتائج "جيدة بما فيه الكفاية".
وهذا لا يعني أن هؤلاء الراضين لا يضعون أهدافًا عالية، هم فقط يسعون جاهدين لتحقيق الكفاية، بدلاً من المثل الأعلى، وهو ما يمنع عنهم الكثير من الجهد ويقيهم من احتمالية الوقوع تحت الضغوط.
وقد ينظر إلى هؤلاء الناس على أنهم كسالى إلى حد ما أو أنهم خاملون، رغم ذلك، فلم يجد علماء النفس أي روابط ذات دلالة إحصائية بين نمط الرضا في اتخاذ القرار لديهم وبين الاكتئاب والقلق وانخفاض مستوى الرضا عن الحياة، على عكس أولئك المثاليين والكماليين.
- نمط الرضا والمثالية الإيجابية
يتمتع أصحاب نمط الرضا في اتخاذ القرار بما يمكننا أن نطلق عليه المثالية الإيجابية، وذلك على الرغم من أنهم مثل المثاليين السلبيين يسعون جاهدين للحصول على معايير عالية، ولكنهم في المقابل يشعرون بالرضا بغض النظر عما إذا كانت أهدافهم مستوفاة أم لا، ومن ثم فإنهم يتحصلون في النهاية على الرضا عن الحياة.
* الفارق بين المثاليين والراضين في كلمات قليلة
إن ما يفرق بين الراضين والمثاليين هو درجة القبول والقدرة على التكيف، فالراضون يقبلون بالقرارات التي اتخذوها (حتى لو كانت "خاطئة")، ويمكنهم أيضًا تعديل وتغيير أهدافهم إلى مستويات أكثر واقعية، وببساطة فإنهم أكثر مرونة وأقل جمودا في تركيبتهم الذهنية، وعندهم قدرة عالية على التكيف عندما يتعلق الأمر بتحديد الأهداف، ومن ثم يقومون "بتخفيض السقف" دون جلد ذواتهم.
*** الدروس المستفادة
وضع معايير عالية لأنفسنا لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج سلبية، ولكن يتعلق الأمر بكيفية تعاملنا، فطالما أن النتائج المرجوة لدينا واقعية ويمكن تحقيقها، وأننا نركز على المكافآت الداخلية، ولا نغرق في عقد المقارنات.. فإننا نسير في الاتجاه الصحيح.
وطبيعي - أنه إذا لم تتحقق أهدافنا - أن نعاني من عواطف سلبية واضطراب عاطفي، ولكن طالما كانت لدينا القدرة على قبول هذه الآثار الجانبية، والقدرة على أن نكون متعاطفين مع أنفسنا، ولدينا مرونة في قبول الواقع، فإننا سنكون قادرين على العيش بسعادة وصحة، وعلى الشعور بالرضا عما وجدنا أنفسنا فيه، وعلى عدم الانشغال بما كان ينبغي علينا أن نكون عليه في العالم المثالي.
يقول الشاعر والروائي والمغني الكندي ليونارد كوهين: "دق الأجراس التي ما زال بإمكانها الرنين، وتجاوز عن سعيك للمثالية، فهناك شقوق في كل شيء، ومن تلك الشقوق ينفذ النور".