عَزّة: الكرامة لا تنكسر-77 عاماً على نكبة فلسطين، من يدفع الثمن؟

جمعة, 16/05/2025 - 21:33

غزة لا تركع، والكرامة لا تنكسر، هكذا تصرخ الأرض التي أُنهكت تحت الحصار، وهكذا يُسمع صوت الفلسطيني في الذكرى الـ77 للنكبة، تلك الكارثة التاريخية التي حلّت بالشعب الفلسطيني عام 1948، حين اقتُلع أكثر من 750 ألف فلسطيني من أرضهم، ودُمرت أكثر من 500 قرية، في سياق تأسيس “دولة إسرائيل”.
ولكن السؤال الذي يطفو على السطح كل عام، ويزداد إلحاحاً اليوم مع تفاقم المجازر: لماذا يُطلب من الفلسطينيين دفع ثمن المحرقة اليهودية التي ارتكبها النازيون في أوروبا؟ هل كان ذنبهم أنهم عرب؟ أو مسلمون؟ أو ببساطة، أنهم كانوا على أرضهم؟
النكبة: جرح لا يندمل
منذ عام 1948، يعيش الفلسطيني لاجئاً، أو تحت احتلال عسكري مباشر، أو في شتاتٍ ممتدٍ من المخيمات إلى المنافي. ورغم ما كُتب وقيل عن النكبة، فإنها ليست مجرد “حدث تاريخي”، بل واقع يومي مستمر في القدس والضفة وغزة والداخل المحتل.
واليوم، وبعد 77 عاماً، يعاد إنتاج المأساة بأبشع صورها. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تعرض قطاع غزة لواحد من أكثر الهجمات دموية في التاريخ الحديث. بلغ عدد الشهداء أكثر من 53,119، بينهم آلاف الأطفال والنساء، فيما تجاوز عدد الجرحى 120,214، في ظل حصار خانق، وانهيار منظومة الصحة، ودمار شامل طال البيوت والمستشفيات والمدارس.
وحتى الحقيقة لم تُترك بسلام؛ إذ استُشهد 217 صحافياً، أثناء تغطيتهم للعدوان، في مؤشر على استهداف متعمد لكل من يحاول نقل الواقع للعالم.
الثمن المدفوع: عدالة مشوهة
بعد الحرب العالمية الثانية، سعت أوروبا لتكفير ذنبها عن جريمة الهولوكوست بمنح “وطن قومي لليهود”، لكن هذا التفكير لم يقع في برلين أو فيينا أو باريس، بل في حيفا ويافا والقدس. اختير الفلسطيني ليكون كبش الفداء لتطهير ضمير الغرب، رغم أنه لم يكن طرفاً في الحرب، ولا شريكاً في الجريمة.
فأي عدالة هذه التي تضع ضحية جديدة لتواسي ضحية سابقة؟ وهل يُصلح ظلمٌ تاريخي بارتكاب ظلم جديد؟
وهل يُعقل أن يدفَع أطفال غزة، الذين يُنتشلون اليوم من تحت الركام، ثمن صمت دولي عمره أكثر من سبعة عقود؟
العرب وهتلر: أسطورة التضليل
يردد البعض أن العرب “تحالفوا مع هتلر”، في محاولة لتبرير الاحتلال، لكن هذه مقولة مضللة. فباستثناء مواقف فردية هامشية، فإن العرب، كشعوب ومجتمعات، لم يكن لهم أي دور يُذكر في الحرب العالمية الثانية، لا من قريب ولا من بعيد. بل إن معظم بلاد العرب كانت حينها ترزح تحت الاحتلالات الأوروبية نفسها التي اضطهدت اليهود.
إقحام العرب في سياق الجرائم النازية ليس سوى تزييف تاريخي، يُستخدم لتبرير مشروع استعماري بلباس أخلاقي.
صوت العالم: ازدواجية المعايير
 عاماً مضت، والعالم ما زال عاجزاً عن أن يقول الحقيقة كاملة. يدين الهولوكوست – وهو أمر واجب ومحق – لكنه يتردد أو يصمت حين يتعلق الأمر بمأساة الشعب الفلسطيني.
اليوم، أطفال غزة يُقتلون بالجملة، ولا يرفّ للعالم جفن. أكثر من 53 ألف شهيد لم يشفع لهم براءتهم، ولا أنين أمهاتهم، ولا صورهم التي اجتاحت العالم. صواريخ تقطع سكون غزة، فلا تضجّ بها العواصم كما ضجّت من أجل مدن أخرى. يبدو أن بعض الأرواح في هذا العالم أثقل من أخرى، وبعض الدماء أغلى من دماء الفلسطينيين.
بل أصبح من يناصر حقوق الفلسطينيين متهماً بـ”معاداة السامية”، رغم أن الفلسطيني نفسه سامي، وذو جذور ضاربة في عمق التاريخ.
من أجل فلسطين: ذاكرة لا تموت
في الذكرى الـ77 للنكبة، لا يبحث الفلسطيني عن الشفقة، بل عن العدالة. لا يسأل أن يُعطى أكثر من حقه، بل أن يُعاد له ما سُلب منه. ومن بين الركام والحصار والدمار والقتل والتشريد، ما زالت غزة ترفع راية الكرامة وتردد: “لن ننسى، ولن نستسلم.”
النكبة ليست مجرد تاريخ؛ إنها حاضر مستمر، والسكوت عنها ليس حياداً، بل تواطؤ،وكل صمت عن مجازر اليوم، هو امتداد لصمت الأمس.
أخيرا: العدالة لا تسقط بالتقادم
في عالم تختلط فيه المفاهيم وتُشوّه فيه الروايات، تبقى النكبة شاهداً على ما يحدث حين يُسكت صوت الضحية ويُروّج لرواية المنتصر فقط. ويبقى الفلسطيني – من غزة إلى الشتات – رمزاً لصمود أمة وحق لا يموت.
فليس من العدل أن يُطلب من طفل في جنين أو رفح أن يعتذر عن جريمة ارتكبها هتلر في أوروبا،وليس من الإنصاف أن يُدفن وطن بأكمله تحت ركام أكاذيب تاريخية.
إن الكارثة الحقيقية ليست فقط في احتلال الأرض، بل في احتلال الوعي العالمي، حين تُزوّر الحقائق ويُشوّه التاريخ وتُقلب المعايير. وإن استمرار هذا الظلم لعقود لا يعني شرعنته، بل يُثبت أن الصمت الدولي جزء من الجريمة.
لكن الشعوب لا تموت، والذاكرة لا تُمحى، والحق لا يضيع مهما طال الزمن،فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، بل اختبار أخلاقي للعالم أجمع: هل ستنتصر الإنسانية على الاستعمار الحديث؟ هل سيعلو صوت العدل فوق ضجيج القوة؟.
في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، نقولها بوضوح: لا نطلب صدقة من أحد، بل نطالب بالحقيقة. نُصرّ على روايتنا، ونُقسم أن مفاتيح البيوت القديمة ستبقى معلقة حتى تعود إلى أصحابها، مهما طال الطريق.
بقلم: الصحفية تماد إسلم أيديه