من قلب المغرب العربي، خرجت القلوب قبل القوافل، وحملت معها وجع غزة، وصوت الشعوب الحرة التي لم تخضع لا للخذلان الرسمي، ولا لصمت العالم المتواطئ. “قافلة الصمود” ليست مجرد مجموعة من الشاحنات أو قافلة إغاثة إنسانية؛ بل هي نبض جماهيري حيّ، يهتف بالحق، ويعبّر عن عمق الانتماء العربي والإنساني لفلسطين، خاصة في زمن المحن الكبرى.
في وقت تُقفل فيه المعابر وتُفتح شاشات الأخبار على مشاهد الدمار والموت في غزة – حيث تجاوز عدد الشهداء 55,104 فلسطينيًا، بينهم أكثر من 17,400 طفل، كما نُقل عن وزارة الصحة في غزة، مع إصابة حوالي 127,394 شخصًا – اختار ناشطون من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا أن يفتحوا دربًا من التضامن، وأن يُسمِعوا صوت الشعوب وسط ضجيج الصفقات وخرائط التطبيع.
اجتمعوا، لا يحملون سوى قلوب نابضة بالحب، وأملًا في أن يكونوا جسورًا تربط بين الضمير الحي هناك، ووجع الصامدين هنا. لم تكن القافلة فقط محصورة في الناشطين أو الجمعيات، بل شاركت فيها العائلات، الطلاب، الأطباء، الفنانون، والعمال، كلٌ على طريقته، فصارت نموذجًا مصغّرًا لشعوب المغرب العربي، متحدين على وجع واحد.
هذه القافلة، رغم طابعها الإنساني، تحمل في طياتها أبعادًا سياسية وأخلاقية عميقة. إنها إعلان صريح بأن الشعوب العربية لم تمت، وأن فلسطين ليست قضية منسية في كتب التاريخ، بل قضية حاضرة في كل بيت ووجدان. وقد ثبّتت الذاكرة الشعبية ذلك عبر عقود: من نكبة 1948 إلى اليوم، ارتوت الأزقة بصدى هتافات القدس، فـ“قافلة الصمود” هي امتداد مباشر لمسار طويل من الدعم الشعبي لفلسطين.
بينما تتردد أصداء القافلة في مدن المغرب العربي، يتردد صداها أيضًا عبر وسائل الإعلام العالمية، وعلى ألسنة متضامنين من أميال شتّى، يتابعون بدهشة كيف أن شعوبًا بأقل الإمكانات تقف في الصفوف الأمامية للمواجهة الأخلاقية مع العالم، لتقول: نحن هنا من أجل الحقيقة.
حمل المتطوعون أكثر من مساعدات… بل رسالة كرامة وإنسانية. فتلك القافلة تفضح المسافات الجغرافية التي يحاول البعض أن يجعلها حاجزًا بين الإنسان وقيمه، وتعيد رسم خارطة العروبة انطلاقًا من نبض الشارع لا من بيانات المؤتمرات.
حين تمرّ القافلة من معبر إلى آخر، تواجه الحواجز والأسلاك والأسئلة، لكنها تحمل جوابًا واحدًا: غزة ليست وحدها. هي صرخة بوجه الحصار، ورفض للخذلان، وعهد جديد بأن الكرامة لا تموت في القلوب الحرة. كل عجلة تدور في هذه القافلة، هي خطوة نحو كسر جدار الصمت، وكل راية تُرفع هي إعلان بأن الشعوب قادرة على الفعل، إن هي أرادت.
جاء هذا التحرك في ذكرى تراجيدية غائرة في تاريخ غزة، حيث تُسجل الآن معدلات وفاة يومية تراوح بين 50 و120 شخصًا، كثير منهم يسقطون بطرق مأساوية قرب نقاط توزيع الطعام مما يعمق الشعور بالظلم والوجع .
دعوة مفتوحة للضمائر
إن “قافلة الصمود” ليست نهاية الطريق، بل بدايته. هي دعوة مفتوحة لكل صاحب ضمير، فنانًا كان أو صحفيًا، ناشطًا أو أكاديميًا، أن يتحرر من صمته، وينضم لمسيرة الكرامة. أن يختار الانحياز للحق في زمن الالتباس، وأن يعيد الاعتبار لفكرة التضامن الشعبي العابر للحدود والسياسات.
لقد علمتنا غزة أن المقاومة ليست فقط بالبندقية، بل أيضًا بالصوت، بالكلمة، بالصورة، وبالطريق التي لا تتوقف مهما اشتدّ الظلام. وقافلة الصمود اليوم تقول لكل العالم: “ما زلنا هنا… لا ننسى، ولا نصمت”
تماد إسلم أيديه