
في زمن تتصاعد فيه التحديات البيئية وتتعمق الأسئلة الاجتماعية، تبرز أصوات تهمس بحلول من قلب التجربة الإنسانية، من علاقة الفرد بأرضه، ومن فضول طفل يحاول أن يبني سفينة من ورق.
هذه الأصوات هي التي احتفت بها قمة "بالعربي" في دورتها الافتتاحية، حيث لم تكن مجرد منصة لعرض الأفكار، بل مساحة لسرد قصص ملهمة، أبطالها 4 من العالم العربي، نسج كل منهم من خيوط واقعه حكاية فريدة عن الاستدامة والإبداع.
رزان زعيتر، تيمور الحديدي، عامر درويش، سمية الميمني، أسماء حملت معها تصورات مختلفة، لكنها التقت جميعها عند حقيقة واحدة: أن الاستدامة ليست ترفا فكريا، بل هي ضرورة وجود، تبدأ من زراعة شجرة في وجه المحتل، ومن تحويل ركام الخرسانة إلى قلعة، ومن تطوير منظومة تحكم عن بعد بدوافع شخصية، ومن إيمان بأن دينارين يمكن أن يمحوا أمية أمة.
اختارت المهندسة رزان زعيتر دراسة الزراعة لا لتكون تخصصا أكاديميا فحسب، بل أسلوب حياة وطريقة للتشبث بالأرض. تقول بصوت يحمل حنين الأرض الأولى: "شعرت أنني شجرة زيتون اقتُلعت من أرضها فلسطين وتبحث عن جذورها". هذه العلاقة الوجدانية بالأرض تحولت إلى فعل مقاومة منظم. فبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1981، وفقدانها لكل مدخراتها، وجدت نفسها في عمّان "صفر اليدين"، لكنها لم تكن منزوعة الأمل.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، قررت تحويل غضبها إلى عمل مثمر، فأطلقت مبادرة "المقاومة الخضراء" تحت شعار "يقلعون شجرة.. نزرع عشرة"، والتي تطورت لاحقا لتصبح "المجموعة العربية لحماية الطبيعة". ومن دون أي تمويل أجنبي، نجحت المبادرة في زراعة 3.25 ملايين شجرة مثمرة، دعمت بها 47 ألف مزارع يعيلون أكثر من ربع مليون إنسان. هذه الأشجار لم تقاوم فقط غياب الأمن الغذائي وتغير المناخ، بل منعت مصادرة الأراضي التي يستغل الاحتلال قوانين عثمانية قديمة للاستيلاء عليها.
ومع استمرار الإبادة الزراعية في غزة، لم تقف رزان مكتوفة الأيدي. أطلقت حملة "إحياء مزارع غزة" تحت شعار "التجويع سلاحهم.. والزراعة مقاومتنا"، والتي أعادت زراعة ألف دونم، على الرغم من أن الاحتلال يمنع إدخال البذور إلى غزة، "ولو بذرة بندورة بحجم السمسم"، لأنه، كما تقول، "يهاب بذورنا".
تختتم رزان كلمتها الملهمة بمقولة من الموروث الفلسطيني: "ما دامت لي زيتونة وليمونة وبئر وشجيرة صبّار، ما زالت لي نفسي، سأقاوم"، ثم توجه دعوتها للجميع: "تعالوا نزرع معا… تعالوا وقاوموا معي".
من مقاومة الأرض إلى البناء عليها، يقدم تيمور الحديدي من مصر رؤية مختلفة، لكنها لا تقل عمقا، عن الاستدامة. في النوبة، حيث بنى منزله بالكامل من مواد معاد تدويرها، يقف هذا البيت شاهدا على إمكانية تحويل ما نعتبره "نفايات" إلى تحف عمرانية تحتفي بالبيئة والثقافة المحلية.
بدأت رحلته بفكرة بسيطة: "بناء بيت صغير باستخدام زجاجات بلاستيكية مملوءة بالرمال كبديل للحجارة التقليدية". هذا الفكر الإبداعي تطور إلى ما يسميه تيمور "الهندسة الفطرية"، وهي فلسفة بناء تقوم على الحلم والتجربة والتناغم مع الطبيعة. يقول: "كنت أحلم وأُطلع الفريق على أحلامي وأشرع في التنفيذ، وأحيانا نهدم ونبني من جديد حسب أفكار جديدة أفضل". لم تكن هناك مخططات هندسية صارمة، بل قراءة لعلامات الطبيعة؛ فالأشجار هي التي حددت مسار الجدران، والشمس والقمر والرياح هي من صمم البيت.
استغرق بناء هذه القلعة الصغيرة 4 سنوات، تم خلالها جمع 180 نقلة ركام خرساني، وآلاف الزجاجات الفارغة، وأطنان من الأخشاب المعاد تدويرها، وإطارات السيارات المستعملة. 80% من مكونات البيت كانت من مواد أعيد تدويرها، لأن "الاستدامة كانت بوصلتي"، كما يؤكد تيمور.
ويرى في هذا الركام الذي خلفته الحروب، كما في غزة اليوم، بذرة أمل. يقول إن "ركام الخرسانة قد يكون بوابتنا لعالم أكثر استدامة، ويحمل بذرة أمل لإعادة الإعمار وإعادة كتابة التاريخ". ويختتم تيمور قصته بقناعة راسخة: "أن أكثر الأفكار جرأة قد تولد من كومة ركام".