
نواكشوط(وكالة السواحل للأنباء): ربما تكون تصريحات الرئيس بايدن بداية النهاية للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، لكنها بالتأكيد ليست مؤشراً على تغيير جذري في الموقف الأميركي من جوهر الصراع العربي-الصهيونى.
أثارت تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن مساء الثلاثاء الماضي، والتي وجه من خلالها انتقادات صريحة إلى تركيبة حكومة نتنياهو وطريقة إدارتها الحرب على قطاع غزة، جملة تساؤلات عن سر هذا التحول في الموقف الأميركي ومدى مصداقية تلك التصريحات وما يمكن أن تسفر عنه، سواء لجهة الوقت المعطى لـ"إلاحتلال" في عدوانها على قطاع غزة أو لجهة مستقبل العلاقات الثنائية في ظل استمرار الحكومة الإسرائيلية الحالية التي وصفها بايدن بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ الحكومات الصهيونية.
هذه التساؤلات تُطرح لاعتبارين: الأول هو طبيعة العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بـ"العدو" منذ ما قبل نشأة الأخيرة، وهي علاقة ضمنت للكيان الصهيوني على مدار العقود الماضية شن حروب توسعية عديدة، وارتكاب آلاف المجازر والجرائم ضد الإنسانية، وتفوقه العسكري في المنطقة، والاعتبار الثاني يكمن في حجم التأثير اليهودي في مجريات الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الغربية.
بيان الخارجية
إذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء زمنياً، وتابعنا تطورات الموقف الأميركي من العدوان المستمر على قطاع غزة، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام كم هائل من التصريحات والبيانات والتسريبات التي ترسم صورة واضحة عن ذلك الموقف، لكن اللافت قبيل صدور تصريحات الرئيس بايدن حدثان هامان هما:
- الأول يتمثل في بيان صحافي أدلى به المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، وقال فيه إن واشنطن "لم ترَ أي دليل على أن إلاحتلال يقتل المدنيين عمداً خلال حربها على قطاع غزة، وليس لديها معلومات تشير إلى أن الحكومة الصهيونية تستهدف الصحافيين في هذا الصراع".
وأضاف: "من المبكر إجراء تقييم نهائي لاستجابة إلعدو الصهيونى لنصيحتهم بحماية المدنيين في عملياتها العسكرية، ولكن الولايات المتحدة ترى "تحسّناً" في تحديد إلعدو نطاق أهدافها في غزة، مع توسيع العملية العسكرية بعد الهدنة لتشمل مناطق في جنوب القطاع". هذا البيان هو تتويج لسلسلة طويلة من التصريحات الأميركية التي تتالت منذ بدء العدوان على قطاع غزة، والتي كانت تنفي استهداف جيش الاحتلال الصهيوني للمدنيين في مدن القطاع.
البيان الصحفي المذكور تم في الرابع من الشهر الحالي، أي قبل نحو 9 أيام فقط من تصريحات الرئيس بايدن، فما الذي جرى خلال هذه الفترة حتى تغير الإدارة الأميركية موقفها وتصف القصف الصهيوني على غزة بالعشوائي؟
هناك عدة تحليلات يمكن الإشارة إلى أهمها
- الأكثر ترجيحاً يكمن في الرضوخ الأميركي لضغوط الرأي العام العالمي، ولا سيما مع التداول الواسع للصور المرعبة لضحايا المجازر والجرائم الصهيونية في مدن القطاع، والتي لم يحل انحياز معظم وسائل الإعلام الغربي إلى الكيان الصهيوني دون انتشارها وتحريكها تظاهرات تجوب يومياً شوارع العديد من العواصم والمدن العالمية، بما فيها الأميركية منها.
- الاحتمال الآخر يتمثل في الانقسامات الحاصلة داخل الإدارة الأميركية حيال الموقف من العدوان الإسرائيلي على غزة. هذه الانقسامات ظهر جزء منها إلى العلن مع تقديم عدد من كبار الموظفين في الخارجية والبيت الأبيض استقالاتهم، والجزء الآخر لا يزال غير معلن، وهو ما يتسبب بصدور تصريحات قد تعبر في مجملها عن الانحياز الأميركي إلى "تل أبيب"، إلا أنها متباينة في استخدام المصطلحات والعبارات.
المثال على ذلك هو التباين الحاصل بين بيان الخارجية المشار إليه سابقاً، وما قاله منسق الأمن القومي يوم الثلاثاء الماضي، والذي جاء فيه حرفياً: "نعلم بالعدد الكبير جداً من الضحايا المدنيين، وسنواصل الضغط على إسرائيل للحد من تلك الخسائر".
- الاحتمال الثالث أن الرئيس بايدن اضطر إلى الخروج بتصريحات مفاجئة للرأي العام حيال العدوان على قطاع غزة تحقيقاً لغايات انتخابية، ذلك أن استطلاعات الرأي باتت تتحدث بصراحة عن حدوث تراجع مستمر في شعبية الرئيس بايدن وحزبه على خلفية الموقف من العدوان على غزة. مثل هذا الاحتمال ليس مستبعداً في ضوء ما تتطلبه التحضيرات الانتخابية من مواقف تكون منسجمة أو قريبة من اهتمامات الناخبين.
الفيتو
الحدث الثاني الهام يتعلق باستخدام الولايات المتحدة يوم الثامن من الشهر الحالي حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، أي قبل 3 أيام فقط من تصريحات الرئيس بايدن المثيرة للاهتمام. وبذلك، فإن الفترة السابقة للتحول الأميركي تقلصت من 9 أيام إلى 3 أيام.
في قراءة هذا الحدث وعلاقته بتصريحات بايدن، علينا أن نتوقف عند النقاط التالية:
- الفيتو الأميركي هو الفعل المعبر عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه "إلعدو"، وأيضاً جميع القضايا والملفات الدولية، فيما التصريحات الإعلامية والانتخابية ليست أكثر من محاولة للتأثير في توجهات الرأي العام، بدليل أن جميع المسؤولين الأميركيين يتحدثون منذ العدوان على القطاع عن تنسيق مع "تل أبيب" لتحييد المدنيين وتجنيبهم الاستهداف والعمل وفقاً للقانون الدولي الإنساني في عملياتها الإرهابية الصهيونية، لكن عملياً كان القصف الصهيونى، ولا يزال، يستهدف الأبنية السكنية والمستشفيات والمدارس ومراكز الأمم المتحدة، بل إنها كانت تتبنى الرواية الصهيونية لحادثة قصف المستشفيات وإعدام المرضى والكادر الطبي.
- تصويت 13 دولة لمصلحة مشروع القرار وامتناع بريطانيا عن التصويت هو تطور له تداعياته وأسبابه. وتالياً، كان من غير المنطقي أن تتجاهل واشنطن هذا التغيير في المواقف الدولية، وهو تغير لم ينحصر في مواقف أعضاء مجلس الأمن، إنما في الدعوات الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار، ومن دول عديدة كانت تساند الكيان الصهيوني وتعتبر ما يقوم به دفاعاً عن النفس.
وحتى مع وجود تنسيق أميركي بريطاني فرنسي لتوزيع الأدوار داخل مجلس الأمن، فإن واشنطن كانت مضطرة أمام الرأي العام إلى إجراء تعديلٍ ما في موقفها، ولو إعلامياً، وإلا فإنها كانت ستبدو معزولة دولياً في موقفها المساند للكيان الصهيوني.
- من الضروري التمييز بين الموقف الأميركي الداعم للعدوان على غزة بذريعة حق الكيان في الدفاع عن نفسه، وطريقة تنفيذ ذلك العدوان، وهذا تحديداً ما تعبر عنه جميع التصريحات والمواقف الأميركية، بما فيها التصريحات الأخيرة لبايدن، التي تفرق بين استمرار العدوان لتحقيق أهدافه وما تعتبره واشنطن مجرد أخطاء يجب تجنبها لكي لا تفقد "إسرائيل" الدعم الدولي.
لذلك، إن انتشار صور المجازر المروعة والدمار الهائل هو ما يقلق الولايات المتحدة، وليس استمرار العدوان أو حتى احتلال القطاع أو الرفض الصهيوني لحل الدولتين المنادى به غربياً وعربياً أيضاً.
لن يحدث شيء
ربما تكون تصريحات الرئيس بايدن بداية النهاية للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، لكنها بالتأكيد ليست مؤشراً على تغيير جذري في الموقف الأميركي من جوهر الصراع العربي-الصهيوني، ولا توفر ضمانة ألا تتكرر مجازر النازية الجديدة بحق أبناء الشعب الفلسطيني مرة أخرى، والدليل على ذلك هو عدد الشهداء الذين سقطوا في مدن الضفة الغربية على أيدي الجنود وقطعان المستوطنين الصهاينة ومن جرى اعتقالهم وأسرهم منذ السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
كما أن تلك التصريحات لن تكون مقدمة لتحقيق سلام عادل في المنطقة يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، كما تتمنى بعض الأنظمة والقيادات.
باختصار، هي تصريحات "الضرورة" التي أجبرت الإدارة الأميركية على قولها بفعل هول المجازر والجرائم الصهيونية واستشهاد أكثر من 18 ألف مدني فلسطيني من جهة، وبفعل الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة وما فرضته من معدلات جديدة في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني من جهة ثانية.
المصدر:الميادين