التشدد والحرص اللذان يمارسهما بعض الآباء لتربية أبنائهم، لا يجدي نفعاً دائماً كما يتصورون، ويؤدي أحياناً إلى نتائج عكسية تماماً.
عائشة شابة من عائلة متدينة ومحافظة، هجرت الإسلام بسبب تشدد والدها، تروي هنا لبي بي سي قصتها.
"تربيت على كرم الأخلاق"
تنحدر عائشة من أسرة متدينة ومحافظة من بلدة معرة النعمان شمالي سوريا، لكنها نشأت في دمشق وحلب قبل أن تنتقل إلى لندن.
قضت عائشة 16 عاماً تحت رعاية والدتها، وتعلمت منها فروض الإسلام وقراءة القرآن، ورباها اهلها على حب الناس وكرم الأخلاق.
واعتبرتها والدتها "ابنة مثالية"، لكنها توفيت عندما كانت عائشة في السادسة عشرة من عمرها.
ساءت حالة عائشة النفسية بعدها، ولم ترغب في الحياة وكثيراً ما فكرت بالانتحار، ليس بسبب فقدان والدتها، بل بسبب معاملة والدها القاسية التي كانت تختلف تماماً عما اعتادت عليه من أمها.
وبات الوالد وشقيقاها اللذان يكبرانها سناً، أكثر حرصاً وتشدداً في تربيتها، وباتت جميع تصرفات الفتاة المراهقة خاضعة للمراقبة من قبل والدها الذي فرض عليها الكثير من القيود والقواعد الجديدة لتربيتها.
كان الوالد يتدخل في أدق تفاصيل حياتها بحسب قولها، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن مصدر آخر أملاً بقليل من الحرية والسعادة.
تقول عائشة: "كنت أذهب مع جدتي إلى جلسات تلاوة القرآن في المسجد دون رغبة مني، بل بأمر من والدي بهدف عدم بقائي وحيدة في المنزل أثناء غيابه، ظناً منه بأنني قد أرتكب خطأ ما وأشوه سمعة العائلة".
استبداد
وتضيف: "من السهل بالنسبة لوالدي أن يطلق الألفاظ المهينة ويشتم، فقد كان عصبي المزاج، ينهر ويضرب في حالات الغضب الشديد، كما ينتابه الشك في تصرفات الجميع من حوله، ولا يعجبه الرأي الآخر، إنه ديكتاتوري لا يهنأ إلا بطاعة الجميع حتى لو كان على خطأ.
لم يكن والدها "ممن يتقبل الحوار وكان مقتنعاً بطريقة حياته و"تربيته الصالحة"، لكن لم يشمل ذلك ولدَيه، بل كانت هي الوحيدة التي تحمل مسؤولية شرف العائلة وكرامتها وسمعتها كونها فتاة، هكذا كانت تشعر عائشة.
ومع مرور السنوات، وجدت نفسها في عزلة تامة عن جميع صديقاتها، و"تحت الإقامة الجبرية في منزلها"، ولم يُسمح لها بإكمال دراستها الجامعية رغم حصولها على الدرجات المطلوبة لاختيار ما كانت تطمح إليه، وهي دراسة اللغة الإنجليزية.
كان لدى عائشة الكثير من الوقت في البيت لأنه لم يُسمح لها بالعمل، بانتظار من يطرق بابها طلباً للزواج منها.
وتصف عائشة ظروفها: "كنت وحيدة وتعيسة ويائسة، حتى صديقاتي من بنات الجيران كنَّ يقمن بزيارتي سراً أثناء غياب والدي الذي حظر صداقتي لهن لأسباب مختلفة، فكارولين بسبب قوميتها الأرمنية ودينها المسيحي، ولمياء لأنها كردية ومن أسرة مسلمة أيضاً، لكن ليس على طريقة والدي، وكانت فاطمة محظورة أيضاً، رغم أنها صديقة الطفولة ، بسبب صوت ضحكتها العالي الذي كان يصفها والدي بقلة الحياء".
تمرد
بدأت عائشة تدير ظهرها لمكتبة والدها التي اقتصرت على الكتب "المرعبة"، فقد كانت الروايات العالمية المترجمة وقصص الحب ممنوعة تماماً، لأنها "تنخر في العقل وتسممه بالأفكار الغربية" بحسب اعتقاد والدها، أما التلفزيون فيعتبره بؤرة الفسق والفجور.
و أكثر ما دفع عائشة إلى البحث عن معتقدات أخرى غير الإسلام هو "ذلك التشدد وضيق الأفق من والدها"، وتشبه حالتها في تلك الفترة، بالغريق الذي يبحث عن بصيص أمل فيمسك بقشة.
أما شقيقاها، فكانا يعيشان حياتهما على أحسن ما يرام، لا قيود على زياراتهما وأصدقائهما وسهراتهما خارج المنزل، الأمر الذي كان يجعلها تشعر بالغيرة والظلم بحسب تعبيرها.
وتستحضر عائشة التي تبلغ الأربعين حالياً، مقتطفات من كتيبات يجلبها لها والدها وهي لم تدخل سن العشرين بعد.
ومن ضمن ما تتذكر، نصاً في وصف جهنم بالقول:" إن من يدخل جهنم، سيرى امرأة معلقة بشعرها ويغلي دماغها لأنها كانت سافرة، وأخرى معلقة بلسانها والجمرة تنزل في حلقها لأنها كانت لا تطيع زوجها، وأخرى معلقة بثدييها لأنها كانت تمتنع عن مضاجعة زوجها عندما كان يطلب منها ذلك، وامرأة تأكل لحم جسدها و النار توقد من تحتها لأنها كانت تتزين للناس، وأخرى تحرق وجهها و يدها وهي تأكل أمعاءها لأنها لم تغتسل من الجنابة والحيض وغيرها الكثير من القصص المرعبة مثل عذابات القبر المضاعفة للمرأة".
وترى عائشة أن الدين الذي تربت عليه وأحبته، يعادي المرأة ويحمّلها مسؤولية مضاعفة بالنسبة للرجال، وينتقص من قيمتها. كما أنه لا ينصفها بالميراث ولا يمنحها الحرية مقارنة ما للرجال، وأنها دائماً مخلوق من المرتبة الثانية.
تحول إلى اللادينية
بدأت عائشة رويداً رويداً تبتعد عن الدين بعد أن سئمت تشدد والدها وتعصبه الديني، لم يكن لحياتها أي هدف أو معنى، وكان يجول في خاطرها أسئلة تربكها أكثر، على سبيل المثال، كانت تتساءل مع نفسها "أيعقل أن ينتهي جميع هؤلاء الطيبون من حولي وكذلك جاراتي الأرمنية والمسيحية والكردية والعلمانية وغيرهم إلى نار جهنم وهم بهذه الطيبة والإنسانية؟ من سيدخل الجنة إذاً؟ وهل سيكون والدي الذي يوبخني ويؤلمني ويمنعني من التعامل مع الجيران هو من سيدخل الجنة؟".
كانت تتمنى لو كانت ابنة الجيران وليس ابنة والدها، إذ كانوا جميعهم يحترمونها ويرونها "مسكينة ومغلوبة على أمرها".
وتسرد عائشة بعض الأمثلة من حياتها وتقول: "كان والدي يصرّ على صيامي عندما كنت حائضاً، لئلا يصبح أمر عدم صومي في رمضان أمراً اعتيادياً، وكان يستشيط غضباً عندما أتأخر في إعداد مائدة الإفطار لدقيقتين أو أكثر، وإذا حدث ذلك، كان صراخه علي يخترق جدران المنزل، لأشعر بالإحراج والخجل من الجيران، إذ لن يصدق أحد أن كل ذلك الصراخ سببه مائدة طعام".
وتعلق على حادثة من الحوادث التي اعتاد والدها عليها قائلةً: "في إحدى أيام الصوم الطويلة، وبينما كنا جميعا نجلس حول الطاولة بانتظار موعد آذان المغرب، افتعل مشكلة كبيرة لنفس الأسباب التي اعتدنا عليها، وقام على إثرها برمي جميع الأطباق على الأرض، فبقينا جائعين، وقضيتُ ساعات في تنظيف المنزل، كان ذلك آخر يوم صوم في حياتي" .
بعدها انكبت عائشة على البحث والقراءة في كتب أخرى ممنوعة بدءاً من "قصص الخلق وظهور الأديان إلى روايات الحب العالمية فالكتب الفلسفية والنفسية والجنسية وغيرها الكثير من الكتب عن المرأة والحريات والثورات الغربية"، وكانت جميع تلك الكتب تستعيرها من أصدقائها أو المكتبة الوطنية وتخبئها تحت سريرها بعيداً عن عيني والدها.