
في مشهد يتجاوز حدود المأساة ويغرق في أعماق العار الإنساني، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة تحت نير الجوع والموت، في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية التي يشهدها العالم المعاصر. أطفال يموتون وهم يبحثون عن لقمة، وأمهات يفقدن فلذات أكبادهن بسبب نقص الغذاء والدواء، فيما تقف المعابر العربية، بكل إمكانياتها، مغلقة في وجه شعب يحتضر ببطء.
منذ أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة لحرب إبادة شاملة يقودها الاحتلال الإسرائيلي، خلفت حتى الآن أكثر من 198 ألف شهيد وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب آلاف المفقودين. ومع اشتداد الحصار، بدأ الجوع يحصد أرواح المدنيين، حيث سجلت وزارة الصحة في غزة أكثر من 900 حالة وفاة بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم 71 طفلًا، في حين أصيب أكثر من 6 آلاف فلسطيني وهم يبحثون عن الطعام تحت نيران الاحتلال.
في قلب هذه المعاناة، يبرز سؤال صادم ومحرج: لماذا لا تفتح الدول العربية حدودها مع غزة لإغاثة الجائعين؟
الصمت العربي.. تواطؤ أم عجز؟
الحدود المصرية مع قطاع غزة، والمعروفة بـ”معبر رفح”، تمثل المنفذ الوحيد غير الخاضع مباشرة للاحتلال الإسرائيلي،ومع ذلك فهي مغلقة في معظم الأوقات أو خاضعة لقيود مشددة، لا تسمح بمرور الإغاثة إلا بتصاريح وموافقات معقدة، غالبًا ما تصطدم بالضغوط السياسية والتنسيق الأمني.
ليست مصر وحدها، فالعالم العربي بأسره يبدو كمن اختار الصمت أو الوقوف على الهامش. الأنظمة مشغولة بحسابات سياسية وتحالفات دولية، بينما الأطفال في غزة يتناولون أوراق الشجر أو ينامون على بطون خاوية. بعض الدول تصدر بيانات شجب، وأخرى تنظم مؤتمرات تضامن، لكن لا شيء يصل إلى الأفواه الجائعة ولا شيء يوقف القصف.
الحصار.. سلاح إبادة
لم يعد الجوع في غزة نتيجة عرضية للحرب، بل تحوّل إلى سلاح ممنهج تستخدمه إسرائيل لتركيع السكان وإجبارهم على الاستسلام. سياسة “التجويع حتى الموت” تُمارس بلا رادع، في ظل غياب المجتمع الدولي، وتقاعس الجوار العربي.
المعابر مغلقة، الموانئ محاصرة، والمجال الجوي مسيطر عليه من قبل الاحتلال. منظمات الإغاثة تُمنع من الوصول، والمساعدات تُقصف أو تُعرقل. ومع ذلك، لا تزال بعض الدول العربية تصر على التعامل مع غزة وكأنها عبء سياسي، لا قضية إنسانية وأخلاقية.
مسؤولية تاريخية وأخلاقية
فتح الحدود مع غزة، وتوفير ممرات آمنة لإدخال الغذاء والدواء والوقود، لم يعد خيارًا إنسانيًا فقط، بل ضرورة أخلاقية وواجب قومي. لا شيء يمنع إقامة جسر إغاثي بري أو جوي عربي ينقذ ملايين الأرواح،فالتقاعس في مثل هذه اللحظات ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة.
الشعوب العربية تُظهر تعاطفًا هائلًا مع غزة، لكن التضامن الشعبي لا يكفي ما لم يتحول إلى ضغط فعلي على الأنظمة لفتح المعابر وكسر الحصار،التاريخ لن يغفر لمن امتلك القدرة على الإنقاذ واختار الصمت.
ختاما:
غزة اليوم ليست مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل مرآة تعكس عمق الانحدار العربي أمام استحقاقات الكرامة والواجب،والجوع فيها ليس قَدَرًا، بل جريمة مستمرة يمكن وقفها بقرار شجاع.
فمن العار أن تمر قوافل الأسلحة عبر الأجواء والمياه العربية، بينما تُمنع قوافل الغذاء والدواء من الوصول إلى أطفال يموتون جوعًا،ومن المؤلم أن تصبح حياة الإنسان الفلسطيني رهينة حسابات السياسة، والحدود، والتحالفات، في وقت يُفترض فيه أن تتقدم الأخوّة والدين والإنسانية.
غزة لا تحتاج إلى خطب رنانة أو مؤتمرات شكلية، بل إلى مواقف شجاعة تقلب موازين المعادلة. إلى قادة يمتلكون ضميرًا حرًا لا يخشى لومة لائم. إلى شعوب لا تكتفي بالبكاء على الشاشات، بل تدفع ثمن التضامن فعلًا لا قولًا.
لقد آن الأوان للعرب، حكومات وشعوبًا، أن يُجيبوا على السؤال الذي سيكتبه التاريخ بحبر من دم: أين كنتم حين جاعت غزة ومات أطفالها؟
فإن لم يكن اليوم… فمتى؟ وإن لم تكن غزة… فمن؟!