
هل قطعت على نفسك عهدا يوما ما؟ وهل أنجزته ووفيت به كما وعدت؟ هل ترى نفسك من أولئك الأوفياء المخلصين لعهودهم الذين لا يتراجعون عما التزموا به؟ وماذا لو خان أحدهم عهدا قطعه على نفسه من أجلك؟ كيف سيكون وقع الخيانة على روحك، وأي أثر سيتركه نكث الوعد في وجدانك؟ هل ترى أن هناك مسوغات تسوّغ نقض العهود، أم إن ذلك لا يفسر إلا على أنه نقص في الكرامة، وقلة في المروءة، وخلل في شرف الكلمة؟
تعالوا إذن نخوض غمار رحلة لغوية أدبية نستنطق فيها جذور الكلمة وننقّب عن معانيها في بطون اللغة ووهج الشعر، ونبحث عن جوهر "العهد" بين دفتي اللسان العربي، ونستكشف كيف صاغه القرآن وعدا وميثاقا ووعدا مؤكدا بالقسم، وكيف جعلته الجاهلية مقياسا للمروءة وميزانا للشرف.
رحلة نلتمس فيها صوت اللغة حين تنطق بالعهد، ونبض الأدب حين يخطه شعراؤه في المفاخر والوعود والغرامات والمواثيق، لنجيب عن سؤال قديم متجدد: ما الذي يجعل الإنسان وفيا بعهد قطعه؟ وما الذي يدفعه أحيانا إلى نقضه ونسيانه؟ وهل يكفي الزمن ليغفر خيانة العهد، أم إنها تبقى وصمة لا تمحى مهما طال المدى؟يعد لفظ "العهد" من الألفاظ القرآنية الغنية بالدلالات، إذ تتنوع معانيه بتنوع السياقات التي يرد فيها، ليشكل مفهوما مركبا يجمع بين الوصية والميثاق، والعلم والزمان، والقسم والولاية.
فمن أبرز معانيه في القرآن معنى الوصية، كما في قوله تعالى في سورة يس/60: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾، وكذلك قوله تعالى في سورة (الإسراء/152): ﴿وبعهد الله أوفوا ذٰلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾.
فالوفاء بعهد الله هنا هو الالتزام بوصيته، أي طاعته واتباع أوامره، والعمل بما جاء في القرآن والسنة، واجتناب ما نهى عنه؛ إذ يشير العهد في هذا السياق إلى العقد الإلهي بين الخالق وعباده، الذي يقوم على الطاعة والإيمان والوفاء.
ويمتد معنى العهد في اللغة إلى العلم والمعرفة، فيقال: هو قريب العهد به أي قريب اللقاء والمعرفة، وبعيد العهد به أي انقطع اتصاله وتوقفت معرفته به. ويقال: كما عهدته أي كما عرفته، وفي ما أعهد أي على حد علمي.
كذلك يقال: عهد بالأمر إلى فلان، أي كلّفه ووكّله به، وعهد الصبي أي رعاه واعتنى به، وعهد الوعد أي حفظه وصانه، ودخل في عهد فلان أي في حلفه وجماعته؛ وكلها معان تشير إلى الارتباط والالتزام والرعاية.
ويأتي العهد أيضا بمعنى الميثاق، كما في قوله تعالى في سورة البقرة/80: ﴿قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده﴾، أي الميثاق الذي لا ينقض، والرباط الذي لا يخلف، تأكيدا أن العهد في جوهره وعد موثق بعلم الله وشهادته.
ويستعمل اللفظ كذلك في معنى القسم أو اليمين، فيقال: عهد علي لأفعلن، أي ألتزم التزاما قاطعا. وقد جسّد النبي ﷺ هذا المعنى الإيماني العميق في قوله: "وإن حسن العهد من الإيمان"، وجاء ذلك في سياق وفائه لذكرى السيدة خديجة رضي الله عنها، وكل ما ومن يخصها، في دلالة على أن الوفاء بالعهد من تمام الإيمان وسمو الخلق.
ومن أبعاد العهد كذلك دلالته الزمانية، فيقال: في العهد الأموي، أي في زمان الدولة الأموية وعصرها، دلالة على المرحلة التاريخية التي ينسب إليها الحدث. ويقال: ولي العهد، أي وارث الملك والسلطان، الخليفة المرتقب الذي بايعه الخاصة والعامة ليتسلّم الحكم بعد الخليفة الحالي. كما يطلق وصف أهل العهد على أهل الذمة الذين أبرمت معهم عهود الأمان.
أما في الاصطلاحات الدينية المقارنة، فيقال: العهد القديم للدلالة على التوراة أو الأسفار التي كتبت قبل المسيح عليه السلام، والعهد الجديد إشارة إلى الإنجيل، أي ما جاء بعده من وحي وتعاليم.
وهكذا يتجلى لفظ العهد في ثراء معانيه وتنوع استعمالاته، فهو وصية إلهية وميثاق رباني، وهو علم ومعرفة، ووعد وأمانة، وقسم ويمين، وزمن وتاريخ، يجمع في طياته روح الالتزام والوفاء، ويعكس في كل سياق صورة من صور العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
