
لم يكن صوت الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، مجرد ضوضاء عابرة في أروقة الأمم المتحدة؛ بل كان رعدًا يهزّ أركان الفخامة والحياد المزعوم. وفي صميم تلك الأركان، كان دونالد ترامب، الجالس في مقره بـنيويورك، يرتعد غضبًا. لم يحتمل ترامب نبرة بيترو العالية والمباشرة وهي تدين ما اعتبره "تواطؤًا عالميًا صامتًا".
كانت الأجواء متوترة بالفعل. بيترو لم يأتِ إلى أمريكا ليتلقى التوجيهات أو يلتقط صورًا دبلوماسية؛ بل جاء ليطلق قنبلة صوتية. وعندما ارتفع صوته أمام الميكروفونات، صارخًا بالاتهامات ضد ما سمّاه "الاستعمار الجديد" ومدافعًا بقوة غير مسبوقة عن فلسطين، كان ذلك بمثابة إعلان حرب شخصي على واشنطن.
وصلت التقارير إلى ترامب، الذي كان يتابع تطورات الأحداث بعين لم تغمض. وعندما سمع بيترو يدعو صراحةً الجنود الأمريكيين إلى "عصيان أوامر الحرب الظالمة" والوقوف إلى جانب الإنسانية، لم يعد الأمر مجرد خلاف سياسي.
لقد أصبح تحديًا للسلطة والجيش الأمريكي.
غضب ترامب لم يكن باردًا ومحسوبًا؛ بل كان متفجرًا.
ففي غضون ساعات، تحركت الآلة البيروقراطية بضغط منه: ألغيت تأشيرة بيترو على عجل. صدر الأمر بأن يغادر نيويورك فورًا. أما الوصف الذي أطلقه عليه ترامب فكان قاسيًا ومباشرًا: "المتهوّر والمحرض".
وفي تلك الأثناء، أصدرت الخارجية الأمريكية بيانًا رسميًا حاد اللهجة، يتهم بيترو صراحة بأنه "دعا جنودها إلى عصيان الأوامر وحرّض على العنف"، مؤكدةً على أن تصريحاته "تتجاوز حدود حرية التعبير الدبلوماسية".
لكن بيترو، الرجل الذي لم يأتِ ليرفل في فخامة فنادق الأثرياء أو يختبئ خلف الأمان الدبلوماسي، لم يكترث. لم يكن ليغادر في صمت. لقد قال ما لم يجرؤ غيره من الزعماء على قوله، وها هو يربط القول بالفعل.
وسط هذه الفوضى الدبلوماسية، اتخذ بيترو قراره الأكثر جرأة.
فبدلاً من التوجه إلى المطار، توجه إلى قلب التجمعات الشعبية الحاشدة الداعمة لفلسطين في نيويورك. وأمام عدسات الكاميرات وأصوات الآلاف من المتظاهرين، أعلن بيترو بصوته القوي قرارًا هزّ العواصم: أعلن نفسه أول المتطوعين في "جيش شعبي لتحرير فلسطين".
كان المشهد سورياليًا ومذهلاً: رئيس دولة لا يزال في السلطة، يقف في شوارع نيويورك، لا بين حراسه، بل بين الجموع الغاضبة، ليطلق تصريحًا من شأنه أن يغيّر مسار حياته السياسية والدبلوماسية للأبد.
وفي الوقت الذي كانت فيه أخبار الزعماء العرب تقتصر على إقامتهم الفاخرة واجتماعاتهم المغلقة التي لم تسفر عن شيء، كان بيترو في الشارع، يهاجم إسرائيل وأمريكا معًا... في قلب دارهم، وعلى مسامعهم.
لقد تحول خروجه القسري من أمريكا إلى انتصار معنوي؛ انتصار للكلمة التي لم تتردد في مواجهة السلطة الأقوى، وتحول إلى رمز للشجاعة السياسية غير المألوفة.
غادر بيترو نيويورك مطرودًا، لكن صدى خطابه بقي عالقًا في أذن العالم.