صحفي بارز يكتب عن ومضات من حياة المخرج الكبير الراحل أحمد ولد محمد الأمين

خميس, 06/12/2018 - 14:31

حمل إلي الفيسبوك قبل يومين نعي زميل وصديق عزيز هو المخرج الكبير فعلا وقولا، المرحوم أحمد ولد محمد الأمين "ولد ميلو" شهرة.

وحال عارض من عوارض الحياة الكثيرة، دون تقديم واجب العزاء في هذا الصديق الغالي، الذي تعرفت عليه قبل نحو عشرين سنة.
كان الراحل قبل عقدين من الزمن في قمة مجده الإداري والإبداعي، مسؤولا كبيرا في التلفزة الموريتانية، ومخرجا كبيرا يرتبط اسمه بواحدة من أكثر التجارب المسرحية قوة وانتشارا بمعايير البلد الفنية حينها.
ورغم ذلك كان قريبا من الجميع، لا يكترث للحواجز التي تخلقها المناصب في أذهان الكثيرين، ولا تحجبه سحب النجومية والشهرة، عن منح بعض الوقت والاهتمام للعامة، وللمبتدئين من أمثالي.
وستدور عجلة الزمن، ليفقد المرحوم منصبه الإداري، وخلافا للمألوف في العرف السائد لدى من "يخلعون" أصر رحمه الله على العودة إلى الميدان.
ومن أول يوم بعد تركه المنصب الإداري، جاء إلى الدوام كأي موظف عادي، غير عابئ باستغراب المحيط، وبنظرات وهمهمات ووشوشات الموظفين.. وبينهم من كانوا حتى اليوم السابق تحت إمرته.
ويومها قال كلمات بقيت ترن في أذني حتى اليوم.. إذا أخذت إدارة التلفزة مفاتيح مكتبها، هل علي أنا أن اختفي لأني لم يعد لدي مكتب.. المنصب يأتي ويذهب وتبقى المهنة والخبرة..
أنا كنت مخرجا ويجب أن أبقى.. لم يتغير أي شيء بالنسبة لي.
ووضع المرحوم من حينها، وبناء على رغبته، على جدول المخرجين الثابتين لنشرات الأخبار لعدة سنوات. 
وسمحت لي تلك التجربة بأن احتك به بشكل أكبر، وبوتيرة يومية تقريبا..
و في هذه التجربة اكتشفت فيه خصالا نادرة في من عرفتهم في هذا الحقل، ليس أقلها الإخلاص والتفاني في العمل، واحترام الوقت، والاهتمام بالتفاصيل، مع خفة ظل، ونكتة حاضرة، ودماثة خلق قل نظيرها.
وتوطدت صلتي بهذا المخرج الكبير والمتقن والدقيق في كل تفاصيل عمله وحياته، ليتاح لي أن أساعده في تقريب بعض الأفكار التي كانت تلح عليه من حين لآخر إلى الجمهور الناطق بالحسانية، عبر بوابة المسرح.
وكان الفقيد يوافيني بنصوص مكتوبة بفرنسية صقيلۃ، تليق بمن ارتاد معاهد وجامعات فرنسا العريقۃ، تعج بالإيحاءات والإحالات والرموز الاجتماعية والتاريخية المستوحاة في الغالب من تراثنا الوطني، ويطلب مني في كل مرة، العمل معه على وضعها في قالب يلائم أعضاء الفرقة والجمهور المحلي.
لم تكن مهمتي ترجمة بالمعني الحقيقي، ولم تكن كذلك بلورة سيناريو بالمفهوم الفني، ولكنها كانت تهيئة نص حتى يكون قابلا للتمثيل بالحسانية، لطرق عدة قضايا بأسلوبه الخاص، الذي تبلور من أيام "شي الوح فشي". 
وامتدت تجربتي معه، خلال المرحلة الانتقالية التي قادها الرئيس اعلي ولد محمد فال، والأشهر الأولى من الفاصلة المدنية القصيرة في تاريخنا السياسي المعاصر، بقيادة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله.
واستفدنا حينها من مناخ الحريات الكبير، والآمال التي تفتقت تحدو البلد نحو غد أفضل، بعد عقود من الجمود والتكلس.
وللأمانة، فقد أثرت تجربة التعاون معه، رؤيتي لكثير من القضايا، ومنحتني زوايا نظر متعددة اتجاه الكثير من الإشكالات المرتبطة بالمسألة الثقافية والهوية الوطنية، وتوظيف التراث الشعبي المتنوع، وتأثير وسائط الإعلام الجماهيري التقليدية.
ويشهد الله، والرجل قد أفضى إلى ما قدم ، أني ازددت إعجابا، حين أتيح لي أن اطلع على ظروف وشروط النشاط المسرحي في البلاد، بإصراره على المضي برسالته إلى أقصى المتاح، غاضا الطرف عن المصاعب، ومستهينا بالنظرة الخاصة لدى فئات واسعة من المجتمع، لمن يمارسون أي نشاط له صله بالتمثيل.
كما لمست لديه زهدا خارقا في المكاسب والمناصب، و"ورعا فنيا" نادرا إن صح التعبير، وسعة صدر فائقة، وقدرة كبيرة على الإنصات والتفهم.
وكان مستعدا لتقدير ظروف كل من يتعامل معهم، بكل ما للكلمة من معنى، مهما كلفه ذلك.
لم يكن أحمد ولد اميلو، انسانا عاديا، من النوع الذي يعيش بقناعته ورؤاه، بل كان يعيش لها، ومن أجل تجسيدها.
وأذكر أني قابلته ذات مرة، قبل سنوات، في مدينة كيفه، وكان عرضة لضغط اجتماعي قوي، لكي يظهر في جانب من كرنفال احتفالي من النوع الذي يكثر في المواسم السياسية والزيارات الرئاسية.
ونجح فعلا في "تحييد" ذلك الضغط، وأبقى نفسه في مجال نشاطه، وأقنع في النهاية، محيطه الاجتماعي، بأن دوره سيكون أهم في البعد التواصلي..
وهو ما أتاح له أن "ينجو بجلده" ، ويبقى وفيا لرؤيته وفلسفته الخاصة في الحياة، بعيدا عن التقوقع في القوالب الضيقة..
وبقي كذلك إلى آخر يوم في حياته، فنانا وفيا لفنه، ومنفتحا على مجتمعه، متطلعا إلى وطن يجمع كل الرؤى والأفكار، ويتيح لها التعايش والتفاعل.
من المؤسف أن أمثال ولد اميلو، لا يجدون الاهتمام الكافي من قبل دوائر القرار في الشأن الثقافي، ولا يشركون في تصور الخطط الكفيلة بالنهوض بالمشهد الثقافي.
والمؤسف أكثر، أن قلة من خارج الوسط الإعلامي والفني، يعرفون ولد اميلو، فيما يتصدر الساحة، في الغالب، نكرات ليس لديهم ما يضيفون، أحسنوا فقط الضجيج والصراخ، وانتهاز الفرص، فيما المجدون من أمثال الفقيد، يقضون زهرة أعمارهم في صراع مرير، وفي صمت، من أجل تجسيد فكرة واحدة آمنوا بها، فوهبوها أغلى ما يملكون، في مقابل تجاهل، حتى لا أقول ازدراء رسمي محكم ومبرم..
لن يكون مفيدا أن تكرم هذه الهيئة أو تلك ولد اميلو، بعد أن رحل، كما نفعل دائما، فهو عاش في غنى عن التكريم، ولن ينفعه أي تكريم، ولن يضره كذلك المزيد من التجاهل الذي كان عرضة له خلال تجاربه المختلفة.. ولكن من الملح أن ننظر بعين التقدير والاحترام، لمن يملكون فكرة تخدم المجتمع، وأن نتيح لهم القدرة على الفعل.
رحم الله أحمد ولد محمد الأمين، وغفر له وأحسن عزاء عائلته في الحوض الغربي والعصابة نواكشوط، ومحبيه وجمهوره في كل مكان، وكل من عرفه عبر انتاجاته المختلفة.
الصحفي محمد ولد حمدو