
وظهر الشاب في الفيديو بملابس رثة وجسد هزيل وهو جالس على رصيف، يحدّق في الفراغ في مشهد يعكس معاناة عميقة وضياعاً مؤلماً، ما أثار موجة تعاطف كبيرة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
وأعادت الحادثة تسليط الضوء على التحديات التي تواجه بعض أفراد الجالية الموريتانية في المهجر، خصوصاً الشباب الذين قد يقع بعضهم ضحية لظروف قاسية وغياب الدعم النفسي والاجتماعي، لينتهي بهم المطاف في براثن الإدمان والتشرد.
ودعا ناشطون السلطات الموريتانية، وخاصة السفارة في واشنطن، إلى التحرك العاجل لمتابعة وضع الشاب، وتقديم المساعدة اللازمة له، معتبرين أن ما جرى "ناقوس خطر يستدعي مزيداً من الاهتمام بأوضاع الجالية".
بداية هذا المقال، أؤكد على حق كل إنسان في التعبير عن فكرته، ما دامت في إطار من الإحترام والحوار. ولا يمكن لأحد أن يحتكر الحقيقة أو يصادر رأيًا لأنه يخالف قناعاته. بل إن أكثر الأفكار إزعاجًا للعقل قد تكون الأكثر نفعًا، لأنها توقظ الأسئلة الجوهرية.
أكتب اليوم من موقع المواطنة العربية ، لا مدفوعة بأجندة، بل بدافع الغيرة على الأرض والتأريخ والهوية. ففي خضم تسارع غير مسبوق للأحداث شرق المتوسط، يتكشف على السطح ما كان يُدار في الظل لسنوات خطة متكاملة متعددة الأطراف لتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا وإعادة تشكيل جغرافية الشرق الأوسط سياسيًا وأمنيًا عبر أدوات مركّبة، تبدأ من التطبيع ولا تنتهي بالإرهاب المبرمج. وفي قلب هذا المخطط، تُعاد (داعش) إلى المشهد، لا كحالة عقائدية منفلتة كما ظهرت سابقًا، بل كمكون وظيفي مدفوع ومُعاد توجيهه بعناية لتسهيل مراحل متقدمة من مشروع تطبيعي استراتيجي، لا تقل خطورته عن النكبة الأولى
ما يجري ليس فوضى، بل فوضى منظمة. وما يظهر كإرتباك أمني، هو في جوهره هندسة صامتة للمنطقة تخدم التصور الإسرائيلي الكامل للشرق الأوسط الجديد، حيث لا وجود لفلسطين، ولا مكان للمقاومة، ولا حرج في استبدال الجغرافيا والديموغرافيا والهوية الوطنية. لا يُستبعد إطلاق مسمى جديد مثلا ك ولاية الشام الكبرى أو أنصار الظهور أو جند العقيدة أو حتى إعادة تدوير اسم داعش نفسه.
لنحلل الأحداث المفصلية معا من الإنفجار الإنتحاري الذي ضرب حاجزًا أمنيًا في مدينة الميادين بمحافظة دير الزور، وأسفر عن مقتل عنصر أمني ومهاجم من تنظيم (داعش)،ثم اللقاء المعلن في باريس بين وزير خارجية سوريا الجديدة ( أسعد الشيباني والوزير الإسرائيلي رون ديرمر) برعاية أمريكية مباشرة. ثم إعلان رسمي عن تطبيع تدريجي بين دمشق وتل أبيب، تخلله توقيع تفاهمات أمنية تتجاوز 85% من بنودها، وفق مصادر إعلامية. ثم تسريبات متزايدة عن خطط لتهجير سكان غزة إلى شمال سوريا تحت عناوين إنسانية، تمهيدًا لتفكيك الجغرافيا السياسية للمقاومة الفلسطينية. إلى التصاعد المفاجئ والممنهج في نشاط تنظيم داعش في البادية السورية وشرقي الفرات، وتحديدًا في مناطق تربط سوريا بالعراق ولبنان وربما الدول الأخرى .
ولنفهم أن هذه المعطيات ليست منفصلة. بل تشكّل نسيجًا واحدًا لخطة ذات مراحل واضحة المعالم،خلق الفوضى، إعادة توزيع السكان، ترسيخ الاحتلال عبر اتفاقيات أمنية وتطبيعية بمسمّى السلام.
ad
ولنحذر أن ما يُعد خلف الكواليس يُحاكي السيناريوهات الأشد ظلامًا منذ 1948. المشروع لا يقتصر على التطبيع بين سوريا وإسرائيل، بل يُؤسس لتحالف أمني إقليمي جديد، تُستبدل فيه أدوات الصراع التقليدي بجيوش إلكترونية، وتنظيمات عابرة للحدود، ومخططات ديموغرافية لإفراغ مناطق المقاومة من سكانها ونقلهم إلى مناطق احتواء معدّة سلفًا. وخطورة التحركات ذات البصمة الاستخباراتية الهجينة، إسرائيلية وغربية وربما روسية، ستهدف إلى تقويض استقلال القرار الأردني في ملفات الجنوب السوري، وتوريط عمان في تنسيق أمني أوسع مع إسرائيل بحجة درء خطر إرهابي مشترك،او ربما اختراق مدروس من نوع ما للتدخل الامني المباشر وتحجيم الدور الأردني في ملفات مثل القدس أو اللاجئين، ضمن هندسة أمنية إقليمية أوسع لا مكان فيها للهويات القومية ولا لقوى الرفض
المشروع قائم على ركائز تنفيذية متعددة منها خلق الفراغ الأمني الموجّه بعودة (داعش) إلى الواجهة بوصفه فزاعة أمنية ضرورية لتبرير الوجود العسكري الإسرائيلي والأمريكي في شرق المتوسط، ولإستهداف أي قوة مقاومة تحت غطاء مكافحة الإرهاب. او ربما نقل سكان غزة إلى بؤر مختلفة، خطة غير معلنة بدأت تخرج إلى العلن، تمهيدًا لإعادة رسم الخريطة السكانية للقطاع وتحويله إلى منطقة آمنة خالية من المقاومة.وخطة التطبيع الرسمي السوري – الإسرائيلي، برعاية أمريكية وبموافقة إقليمية، فقد بدأت دمشق بإشهار علاقاتها مع تل أبيب كخطوة نحو دمج سوريا ضمن النظام الأمني الجديد في الإقليم، في مقابل وعود اقتصادية ودعم دولي لإعادة الإعمار.
ما يجري ليس مصادفة. وعودة “داعش” ليست صدفة. ولقاء الشرع مع وزير إسرائيلي في باريس ليس عبثًا.و التطبيع السوري ليس معزولًا. والترويج لتهجير الغزيين إلى شمال سوريا ليس خيالًا.
الخطورة تكمن في كون العملية لا تُدار من تل أبيب وحدها، بل بمباركة كاملة من واشنطن، وتواطؤ أو صمت معلن من عدة عواصم عربية، بعضها كان عدوًا تقليديًا للمشروع الصهيوني، وتحول الآن إلى شريك في تطبيقه.
الأنظمة الجديدة في المنطقة ستُستعمل كحصان طروادة. والتنظيمات الإرهابية القديمة ستُستخرج من المخازن، ويعاد تغليفها لتكون أداة وظيفية تنشر الرعب وتُحدث الفوضى تمهيدًا للتدخلات العسكرية أو التهجير الجماعي. في ظل انهيار المؤسسات المركزية في أكثر من دولة، وانشغال الشعوب بلقمة العيش أو الحروب الداخلية، ليُعاد رسم الشرق الأوسط كما أرادته إسرائيل منذ كامب ديفيد، دون مقاومة تُذكر.
المؤشرات الميدانية تؤكد ، تصاعد غير مسبوق في النشاط الاستخباري الإسرائيلي جنوب سورياخاصة والشرق الاوسط، وتحركات مباشرة في الجولان ودرعا والضفة الغربية، و تشكل جيب أمني إسرائيلي داخل العمق الحدودي، وسط صمت الأنظمة. في موازاة ذلك، يتبدل الخطاب الرسمي العربي إلى ترويج “السلام مقابل الأمن”، في تواطؤ صامت مع إعادة تعريف الإحتلال كشريك للإستقرار.
تذكروا سيتم ُتضخيّم خطر الإرهاب العابر للحدود لتبرير نشر قوات أجنبية تحت غطاء أممي، و ستتسابق وسائل الإعلام لتسويق النظام السوري الجديد كنموذج تغييري، يُشرعن التطبيع، ويُسهم في دفن آخر معاقل الرفض. كل مؤشر من هذه المؤشرات هو طعنة؛ لكن جمعها معًا هو مشروع تصفية كاملة… تُدار الآن، وبلا قناع
نحن أمام لحظة تاريخية خطيرة.صفقة القرن 2 و المخطط وصل إلى مراحله التنفيذية المتقدمة، حيث يُستعمل الإرهاب كأداة هندسة جيوسياسية، والتطبيع كمدخل شرعي لإعادة تشكيل الخريطة. لا وجود للمصادفة، ولا مجال للحياد. كل صمت الآن هو تواطؤ. وكل تهاون هو تمهيد للسقوط الشامل.
داعش ستعود بصورة جديدة لا لتُقيم الخلافة بل لتُجهز على ما تبقى من فلسطين. غزة تُخلى، وسوريا تُستعمل، والمقاومة تُلاحق.
والأخطر أن اللحظة التاريخية تشير إلى اقتراب نجاحهم.إلا إذا تحركت القوى الحية فورًا. الصفقة بدأت، والفوضى فُتحت، والجغرافيا تُمسح..
وما لم يُكسر هذا المسار الآن، فلن تبقى خريطة تعرفها الأمة…ولا قضية تُذكر في كتب التاريخ القادمة.
كاتبة اردنية
نقلا عن رأي اليوم