
لم يكن استهداف مجمع ناصر الطبي في خان يونس اليوم الاثنين مجرد عدوان عسكري تقليدي، بل كان جريمة مركبة تحمل في طياتها رسالة واضحة: إسكات الحقيقة، وحجب العالم عن مشاهدة مأساة غزة. فقد أدى القصف الإسرائيلي المباشر إلى استشهاد أربعة صحفيين أثناء أداء واجبهم المهني، إلى جانب 11 مدنيًا آخرين، لترتفع حصيلة الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى 244 شهيدًا صحفيًا، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
هذه الجريمة ليست معزولة عن سياقها، بل تأتي في إطار منهج متواصل لاستهداف الكلمة الحرة، حيث يدرك الاحتلال أن الكاميرا والقلم يشكلان قوة لا تقل خطورة على منظومته الدعائية عن أي سلاح في الميدان. فقتل الصحفيين اليوم يعني مزيدًا من التعتيم الإعلامي، ومزيدًا من الضبابية في نقل ما يجري على الأرض من إبادة وجرائم حرب ترتكب بحق المدنيين العزّل.
إن اغتيال الصحفيين الأربعة يعكس حقيقة مريرة: الاحتلال لا يخشى الرأي العام العالمي إلا بقدر ما يُعرّي الإعلام جرائمه. ولذلك، فإن استهداف المؤسسات الإعلامية والطواقم الصحفية في غزة بات نهجًا ثابتًا هدفه “قتل الشاهد” وطمس الأدلة، في ظل صمت دولي مطبق يرقى إلى مستوى التواطؤ.
على المستوى الميداني، من شأن هذه الجريمة أن تُعقّد أكثر مهمة الإعلاميين المتبقين في القطاع، الذين يعملون في ظروف غير إنسانية، بين فقدان الزملاء والخطر الداهم على حياتهم، ومع ذلك يصرون على البقاء في الميدان كجنود للحقيقة. كما أن غياب أصواتهم قد يؤدي إلى تراجع تدفق الصور والتقارير التي توثق الانتهاكات لحظة بلحظة، وهو ما يسعى الاحتلال لتحقيقه ضمن استراتيجيته الإعلامية.
أما على المستوى السياسي، فقتل الصحفيين الأربعة سيُعيد فتح ملف حرية الصحافة على الساحة الدولية، خصوصًا أن النقابات الإعلامية والهيئات الحقوقية العالمية باتت تُدرك أن ما يجري في غزة ليس مجرد “أضرار جانبية” كما يزعم الاحتلال، بل استهداف مباشر للصحفيين كجزء من آلة الحرب. ومن شأن ذلك أن يزيد الضغوط الأخلاقية على الحكومات الغربية التي تقدم الغطاء والدعم العسكري لإسرائيل.
وفي الختام، يمكن القول إن جريمة اليوم تكشف للعالم أن الصحفي في غزة لم يعد مجرد ناقل خبر، بل أصبح هدفًا في حد ذاته. ورغم ذلك، يظل صدى كلماتهم وصورهم يتجاوز حدود القطاع المحاصر، ليشكّل رصيدًا أخلاقيًا وتاريخيًا لا يمكن محوه.
إن استشهاد أربعة من حراس الحقيقة في خان يونس يعيد التذكير بأن معركة غزة ليست فقط معركة صواريخ ودبابات، بل معركة سرد ورواية، معركة بين من يسعى إلى فضح الجريمة ومن يريد طمسها. إن دماء الصحفيين اليوم تؤكد أن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، لكنها في الوقت ذاته السلاح الأمتن الذي سيبقى حاضرًا مهما حاول الاحتلال وأعوانه طمسها.
فالصحفيون الذين سقطوا شهداء في ناصر الطبي لم يرحلوا عن المشهد، بل تركوا للعالم أمانة ثقيلة: أن تظل الكاميرا مشتعلة، والكلمة حية، وأن لا يُسمح للجريمة أن تتحول إلى مجرد رقم في سجل المآسي.
الدماء التي أُريقت في ناصر الطبي ليست مجرد ذكرى، بل ستظل دماء الحقيقة التي تطارد الجناة مهما طال الزمن