جوانب أخرى من حياة العالم الأندلسي ابن البيطار

سبت, 26/07/2025 - 15:02

عاش ابن البيطار في زمن القلاقل والاحتراب الطائفي في الأندلس، فتركها مختارا ليذهب إلى الشرق طلبا للمزيد من العلوم التي نذر لها حياته، ولكن لم يكن حال بلاد الأندلس بأفضل من حال بلاد الشرق، الذي كانت تتناوشه أطماع الصليبيين والتتار، وكانت دوله تتساقط هي الأخرى تحت هجمات الأعداء.

وفي سرد غاية في الدقة لتفاصيل حياته ومشاعره الإنسانية، استطاعت المؤلفة سيمون لافلوريل أن تنسج لنا سيناريو حيا لحياة هذا العالم الكبير، من وقائع ومذكرات وأحداث سجلها ابن البيطار في كتبه، واستطاعت أن تصور لنا أحزانه وأشواقه لوطنه، وسرده لمنجزاته العلمية من خلال رسائل طويلة اختص بها حصيفة، وكأنه يبحث عن وطن بديل، وعن عائلة ينتسب إليها. ولعل هذا هو السبب، وذلك الحنين، اللذان زادا ارتباطه بـ "حصيفة" الدمشقية، ناسخة أوراقه، التي عبرت بصدق عن مدى الحرية والتعليم اللذين نالتهما المرأة في الحضارة الإسلامية، إذ كانت حصيفة الناسخة التي يقصدها الكتاب والرحالة لنسخ أوراقهم وخطاباتهم ورسائلهم العلمية.

 

 

رسائل وذكريات الألم

من خلال تلك الرسائل، يقدم لنا ابن البيطار (1197-1248م) (593هـ) صورة إنسانية متكاملة الجوانب، من ذكريات طفولته وشبابه في الأندلس التي تركها بمحض إرادته وهو في الـ20 من عمره، متجها إلى الشرق للدراسة والاستكشاف، يتخللها عرض مختصر لما أسهم به هو وغيره من العلماء العرب في مختلف مجالات المعرفة، خاصة التي تتعلق بطب الأعشاب، كل ذلك ممتزجا بأحداث وصراعات عايشها ابن البيطار خلال فترة حياته حتى وفاته في دمشق.

يرحل ابن البيطار مع الحجاج إلى الشرق، ولم يكن الحج مقصده الأساسي، بل كان البحث والعلم والاستقصاء هو غايته التي جاء من أجلها إلى الشرق. ويذهب إلى دمشق للتزود بالعلم، وفي دمشق يتعرف إلى بطلة هذه الرواية "حصيفة"، التي سترتبط حياة ابن البيطار بها وبوالدها العالم الكفيف. فهي تساعده في إنجاز أعماله، وتقوم بنسخ رسائله، وهي امرأة متزوجة ولها ولد. ورغم أن ابن البيطار غادر دمشق إلى القاهرة لاستكمال ما جاء من أجله لاستكشاف النباتات اللازمة للتداوي، فإنه بقي متعلقا بحصيفة وعائلتها، بل كان متيما بها، ويظهر ذلك في كل رسائله التي يخص فيها حصيفة ببعض الكلمات الخاصة التي لا يخفى سرها عن قارئ الرسائل.

ورواية "رسائل ابن البيطار- العشاب الأندلسي"، الصادرة حديثا عن المركز القومي للترجمة، ترجمة عادل مهنى، تتتبع تلك الرسائل التي كتبها ابن البيطار للسيدة حصيفة، التي نسخت أطروحته الشهيرة "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، التي وصف فيها أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 عقار من صنع ابن البيطار، مبينا الفوائد الطبية لكل واحد منها، التي كتبها وهو مقيم في مصر، وقسمها 4 أقسام.

ومن خلال هذه الرسائل، نجد أنفسنا أمام شاهد حقيقي على أحداث واقعية، وواقع سياسي مزر؛ فقد كان ابن البيطار شديد القرب من متخذي القرار في عصره، وكان أحد أطباء سلطان مصر وسوريا الصالح أيوب. وفي رسائله يبدو شديد الانتقاد لهؤلاء الأمراء المسلمين الذين يتقاتلون فيما بينهم، بل تحالف بعضهم مع أعداء الإسلام، رغم أنهم من سلالة العظيم صلاح الدين الأيوبي، وكانت النتيجة تفكك الخلافة الإسلامية وانهيارها.

ولم يكن ابن البيطار رحيما في رسائله بالفرنجة الذين أتوا من الغرب ليفرضوا سيطرتهم على الشرق تحت ستار الحملة الصليبية، ولا بهؤلاء التتار الذين أتوا من أقصى الشرق ليدمروا بلاد الشام ويحرقوا مكتباتها الغنية بمؤلفات العلماء العرب. ولم يخف انزعاجه من هؤلاء المماليك والخوارزميين الذين لا يعرفون سوى القتال، والمتعطشين دائما لسفك الدماء.

وفي آخر رسائله يقول لحصيفة: "سأقوم بإغلاق تلك الدفاتر التي أرسلها لك، لقد حان الوقت أخيرا لكي أترك القاهرة، فهل سأندم على ذلك؟ لا أعلم، ولكني أعلم أنني في أول فرصة سوف ألحق بك. سأترك خلفي أصدقائي من العلماء الشغوفين المشهورين: ابن النفيس، وابن أبي أصيبعة، وابن عربي صديقي في المنفى. كم أحببت أن أكون معهم، مثلما تقاسمنا العمل معا، فهل سأشعر بالحزن والندم لمفارقتهم؟

سيدتي حصيفة، لقد كرست وقتك في نسخ وتصحيح "الجامع"، وأكدت لي أكثر من مرة أنك ستعرفين كيف تحمين هذه المخطوطة، ربما لأسباب لا أعلمها، وربما تجعلك غير قادرة على ذلك، أو شاءت الأقدار أن تبتعدي عنها.

الآن يجب أن أقنع نفسي بأن هذا السبب كاف تماما لكي أقرر الرحيل إليك، لكي أزيل شكوكي وأستسلم لك أخيرا.

توفي ابن البيطار في دمشق عام 1248م، بينما كان المصريون يستعدون، تحت حكم سلطان جديد، لمواجهة لويس التاسع في حملة صليبية مأساوية. وقعت مصر بعدها تحت حكم المماليك الذين كانوا عبيدا وأصبحوا محاربين يتصارعون على حكم بلد كبير، وأضحت مصر دولة ضعيفة مثل العراق، وكانت تحتاج لسنوات حتى تتجهز لمواجهة التتار الذين كانوا يجتاحون الشرق بلا رحمة.

المصدر: الجزيرة