الغريوت ... ذكرة إفريقيا

سبت, 26/07/2025 - 14:54

في قرية صغيرة من سهول مالي، حيث يستلقي نهر النيجر وسط الرمال الذهبية، جلس "الغريوت" الجد المنحدر من عائلة عُرفت بالغريوت منذ أجيال سحيقة. لم يكن الجد غريوتًا عاديا، بل وُلد وفي قلبه نغمة، وفي صوته شجن، وفي ذاكرته مئات القصص.

كان يغني تاريخ المعارك والبطولات والأسواق والحب القديم في أرض ماندينغ، لم يكن يحكي بالكلمات فقط، بل بالألحان المنبعثة من آلة الكورا ذات الـ21 وترا مصنوعا من أمعاء ماعز جبلي وقرع كبير مقطوع إلى نصفين ومغطى بجلد البقر، جلس يحكي عن تاريخ أسلافه ومهنته التي يحب، جلس يحدثني عن حكاية "الغريوت".

من الغريوت؟

الغريوت (Grio-Griot) -الكلمة الأكثر شيوعا في الأدبيات الغربية الناطقة بالإنجليزية- أو "دجيلي" (djeli) في لغة الماندي منذ إمبراطورية مالي في القرن الـ13. ويُعرفون أيضا باسم "نياماكالاس" وتعني مدبري القوى التي تُشكِّل الكون.

يقول الكاتب المالي أمادو هامبتة با، ليوضِّح للأوروبيين أهمية المكانة التي يحتلها الغريوت أو الدجيلي في مجتمعات غرب أفريقيا: "مع وفاة كل غريوت، تحترق مكتبة وتندثر للأبد".

الغريوت هم حُراس وسدنة التراث الشفهي في غرب أفريقيا، احتلوا مكانة مهمة في المجتمع وطوروا تقليدا شفهيا ملهما من الأغاني والقصص والروايات التاريخية والأمثال والحكايات.

فهم حفظة التاريخ والتقاليد والأساطير والأنساب في المجتمعات التقليدية في بلدان مثل مالي، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ينحدرون من فئة اجتماعية تتوارث مهنة الغريوت في أسر معروفة منذ الصغر.

 

 

تتعدد أدوارهم ما بين مؤرخين، ورواة قصص، وشعراء، وموسيقيين، ومرشدين روحيين، ويحملون على عاتقهم نقل كل هذا التاريخ والتقاليد والقيم الثقافية للأجيال القادمة.

يحظى الغريوت بمكانة اجتماعية مرموقة، ويعتبرون بمثابة مستشارين للعائلات الملكية وكبار الشخصيات، وتصنفهم العامة خبراء أنساب يعرفون أصول العائلات ووسطاء فض نزاعات.

كما يحتفظون بسجلات لجميع المواليد والوفيات والزيجات عبر أجيال القرية أو العائلة.

كما كان لهم دور سياسي، لكنه محدود وغير مباشر، فالغريوت لم يكن حاكما أو زعيما، لكنه كان حافظا للذاكرة السياسية الجماعية، وصوت السلطة التقليدية، وله تأثير كبير في الحكم والشرعية.