تدمير الشعب الفلسطينى.. الحل الإسرائيلى للقضية الفلسطينية
نشرت مجلة المستقبل العربى التابعة لمركز دراسات الوحدة العربية مقالا للكاتب لبيب قمحاوى تناول فيه استخدام الاحتلال الإسرائيلى للسلطة الفلسطينية كأداة للسيطرة على الشعب الفلسطينى، والعمل على خلق شرائح متتالية من القيادات تكون موالية لإسرائيل وللاحتلال... نعرض منه ما يلى:
كان الشعب الفلسطينى دائما وما يزال هو السلاح الأهم والأقوى فى ترسانة القضية الفلسطينية، وهذا ما جعل من تدمير هذا الشعب بكل الوسائل هدفا استراتيجيا لإسرائيل وحلفائها. ولعل أهم تلك الوسائل هى تلك القادمة من داخل ذلك الشعب نفسه، لأن أى عملية مماثلة من خارج الشعب الفلسطينى سوف تواجه غالبا بمقاومة شعبية شديدة. من هنا تنبع أهمية السلطة الفلسطينية ودورها فى المخطط الإسرائيلى الهادف إلى حل القضية الفلسطينية من خلال تدمير الشعب الفلسطينى وقِيَمِهِ وترابطه والتزامه الوطنى بقضيته، وتحويل أولوياته من النضال من أجل الحرية والاستقلال إلى الاقتتال الداخلى والانقسام المتعدد الأوجه، وتحريم مقاومة الاحتلال، والتغاضى عن بناء المستوطنات، وتقليص أهداف النضال الوطنى من التحرير إلى تحصيل لقمة العيش حتى لو جاءت تلك اللقمة مغموسة بدماء القضية الفلسطينية نفسها ومعجونة بسموم الاحتلال الإسرائيلى.
إن تشخيص الحالة الفلسطينية الحالية تحت إدارة السلطة الفلسطينية يدفع المرء إلى التساؤل عن الأسباب والوسائل التى حولت هذا الشعب فى الضفة الفلسطينية المحتلة إلى ما أصبح عليه الآن من خنوع قهرى وقبول مرير بالأمر الواقع الاحتلالى.
إن إعادة تعريف أولويات أى شعب هى أمر من الصعب تحقيقه بسرعة وسهولة، بل قد يستغرق ذلك الأمر عقودا طويلة ويستوجب الكثير من الضغوط والتفاعلات التى قد تؤدى، كما فى الحالة الفلسطينية مثلا، إلى صهر منظومة القيم الفلسطينية وإعادة تشكيلها بما يتناسب ورؤية الاحتلال الإسرائيلى. فتحويل الفلسطينيين من شعب مناضل مقاوم مقاتل إلى شعب مُقسَم ومنقسم على نفسه، قابلا بالاحتلال حتى ولو على مضض، ساعٍ فقط إلى تأمين لقمة العيش، هى مهمة أوكلتها «إسرائيل» إلى السلطة الفلسطينية بوصفها قيادة الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال وقيادة للقضية الفلسطينية من خلال قيادتها المزعومة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يعَد تدمير الوحدة الوطنية الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطينى إلى مجموعات مختلفة متنافسة فى أحسن الأحوال ومتناحرة فى أسوئها هدف «إسرائيل» الخفى والأهم. وهذا المسار، إذا ما سمح له أن يستمر طويلا، قد يساهم فى خلق أكثر من أمر واقع جديد فى فلسطين وبين أوساط الفلسطينيين.
• • •
إن سياسة الأمر الواقع هى ما اتبعه الاحتلال فى تعامله مع الشعب الفلسطينى عموما منذ عام 1948، وهو ما نفذته السلطة الفلسطينية فى المناطق المحتلة منذ عام 1967 من خلال تمزيق الشعب الفلسطينى وخلق واقعين مختلفين، إن لم يكن متناقضَين، بين فلسطينيى قطاع غزة وفلسطينيى الضفة الفلسطينية. وفى حين نجحت السلطة الفلسطينية فى افتعال مسببات الانقسام وتعزيز مساره، فشلت حركة حماس فى خلق الأرض اللازمة لإفشال مخطط السلطة الفلسطينية فى فصل الشعب الفلسطينى فى منطقة غزة عن الشعب الفلسطينى فى الضفة الفلسطينية المحتلة، وتم بذلك تكريس المخطط والرؤية الإسرائيلية. وقد ساهم فى تعزيز هذا التباعد التباينُ الواضح بين برنامج حماس النضالى وبرنامج السلطة التابع لرؤية الاحتلال.
إن استمرارية السلطة الفلسطينية وبقائها كأداة لاحتواء الشعب الفلسطينى والسيطرة عليه بما يتناسب وأهداف الاحتلال الإسرائيلى هو أمر حيوى واستراتيجى لإسرائيل، الأمر الذى يتطلب العمل الدءوب المستمر وبالتعاون مع أمريكا وحلفاء «إسرائيل» من أجل خلق شرائح متتالية من القيادات للسلطة الفلسطينية تكون موالية لإسرائيل والاحتلال، وتغطى على الأقل الصفين الأول والثانى من تلك القيادات التى تستند فى أصولها وشرعيتها التاريخية إلى حقبة النضال الفلسطينى التى سادت منذ هزيمة 1967 وحتى ثمانينيات القرن الماضى، بينما تستمد شرعيتها الحالية من اتفاقات أوسلو ومن الاحتلال نفسه.
فى الوقت الذى غاب فيه نهج النضال فى مناطق الضفة الفلسطينية كنتيجة لحرص السلطة المستمر والشرس على الالتزام بالتنسيق الأمنى وتحريم المقاومة ضد الاحتلال، صعد فى المقابل إصرار عجيب من السلطة نفسها على المحافظة على استمرار مفهوم الفصائلية وتكريس مكتسباتها المادية والمنصبية كما كان الوضع عليه خلال حقبة الكفاح المسلح، وهو ما يؤشر إلى وجود رغبة خفية فى استرضاء تلك الفصائل بالمال والمنصب عوضا عن النضال والكفاح، واستغلال التاريخ النضالى لتلك الفصائل لتعزيز صدقية السلطة الفلسطينية وإضفاء الشرعية النضالية الجامعة عليها. الهدف هو زج جميع الفصائل فى مخرجات أوسلو لتعزيز ادعاء السلطة بتمثيل جميع الفلسطينيين، وخصوصا بعدما اختطفت تلك السلطة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وألحقتها بذيل السلطة. وقد رافق ذلك تعيينُ بعض المناضلين الفلسطينيين السابقين بمناصب فى السلطة وبرواتب عالية بهدف خلق طبقة من المستفيدين والمنتفعين لضمان استمرارية قيام السلطة بدورها المنوط بها فى كيفية إدارة شئون الشعب الفلسطينى بالطريقة التى يريدها الاحتلال، وهو أسلوب خطير ومسعى لئيم لمصادرة المستقبل بالنسبة إلى الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، وتعزيز قدرة طبقة الفاسدين على الاستمرار فى قيادة ذلك الشعب.
• • •
السلوك المالى والأخلاقى للقيادة الفلسطينية عند وجودها فى تونس والفساد الذى غمر أوساطها، كانا من المحتم أن يصبغا سلوك القيادة نفسها التى قامت بمفاوضات أوسلو، ومن ثم إبرام صفقة الحكم الذاتى والسلطة الفلسطينية. وعلى مَر السنين صبغَ تراثُ الفساد سلوكَ السلطة الفلسطينية مما أدى إلى ابتعاد الكثير من العناصر الشريفة من حركة فتح ومن المناضلين الفلسطينيين بشكل عام من السلطة ومؤسساتها، الأمر الذى أدى إلى حصر مقدرات الشعب الفلسطينى فى تلك الطبقة من الفاسدين ماليا وسياسيا وأصبح هنالك بالنتيجة طبقة من الفاسدين على قمة هرم قيادة السلطة ومؤسساتها. إن حكم الفاسدين لن ينتج عنه أى خير سوى فتح المجال أمام المزيد منهم لتولى الشأن الفلسطينى. ومجتمع الفاسدين فى الحياة السياسية الفلسطينية تحت الاحتلال قد أصبح الآن هو السائد والمسيطر، وعماد استمرار تلك الطبقة هو رضا ودعم الاحتلال الإسرائيلى.
• • •
إن كل السياسات والممارسات الإسرائيلية لإلغاء الهوية والصفة الفلسطينية وتشتيت وتمزيق الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال وفى الشتات بتعاون ملحوظ بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية لم تنجح فى إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة لتجمعات الشعب الفلسطينى كافة. وقد جاءت الحرب الرابعة على غزة عام 2021، المعروفة بمعركة «سيف القدس»، لتقلب الموازين لمصلحة إعادة تأكيد وحدة الشعب الفلسطينى فى كل أرض فلسطين. ولكن «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية ومعظم الأنظمة العربية والعالم، غربه وشرقه، تآمروا جميعا لمصلحة السلطة الفلسطينية ومنع انهيارها بعد معركة «سيف القدس» ووقفة العز والفخار الفلسطينية. وعكفت «إسرائيل» فى إثر ذلك على دراسة الأسباب والمسببات التى أدت إلى ذلك النهوض الفلسطينى، وسعت ــ ومازالت ــ إلى استخلاص العبر وتعلم الدروس، وابتدأت ذلك المسار بالعمل على إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية عربيا ودوليا حتى تتمكن من الاستمرار فى القيام بدورها المشئوم فى مساعدة الاحتلال الإسرائيلى على احتواء وتدمير الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال.
الاقتداء بالآخرين فى ما هو باطل هى سمة من سمات الضعف الأخلاقى والمادى والانحلال السياسى. والسلطة الفلسطينية هى فى هذا المسار منذ تأسيسها على يد الاحتلال الإسرائيلى. تسير السلطة الفلسطينية منذ إنشائها فى المسار نفسه لمعظم الأنظمة العربية باعتبارها الرأى الآخر أو المعارضة السياسية فِعْلا يستوجب العقاب وفى عد المعارضين بالتالى أعداء للنظام. ومن المؤسف والمحزن أن السلطة الفلسطينية تمادت فى هذا التفسير ليشمل تصنيف النضال ومقاومة الاحتلال بوصفهما أعمالا «إرهابية» تستوجب العقاب.
إن استعمال الخلفية النضالية والتراث النضالى للقادة لتبرير مرحلة التحول من النضال إلى العمالة أمرا غير متعارف عليه فى العادة. فقيادات مراحل النهوض هى فى العادة تختلف اختلافا بينيا عن قيادات مرحلة السقوط. أما بقاء قادة النهوض أنفسهم لقيادة مرحلة السقوط فلم يأتِ إلا فى الحالة الفلسطينية عندما تحول ياسر عرفات من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى رئيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاقات أوسلو، ومن ثم جاء خليفته محمود عباس لينقل السلطة الفلسطينية من مرحلة العمالة إلى مرحلة السقوط والاستسلام ويعيد تسميتها زورا بمرحلة الاستقلال. وفى انتظار خليفة محمود عباس ليحوِل مرحلة السقوط والاستسلام إلى مرحلة الخيانة الكاملة، ومن ثم اعتبار هذه المراحل الثلاثة الممتدة من مرحلة العمالة الانتقالية إلى مرحلة السقوط والاستسلام انتهاء بمرحلة الخيانة الكاملة هى المراحل الثلاث المتممة لمرحلة النضال الفلسطينى وذلك من منظور قيادات أوسلو التى ما زالت تدير السلطة الفلسطينية والشأن الرسمى الفلسطينى. وهكذا فإن السلطة الفلسطينية تحسب نفسها ونهجها مرحلة الختام بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والفلسطينيين بالرغم مما تمثله تلك السلطة من سقوط وخيانة للأهداف الوطنية الفلسطينية.